من خطبة لسيدتنا ومولاتنا فاطمة الزهراء عليها السلام قالتها في مجمع نساء المهاجرين: (أصبحت والله عائفة لدنياكن، قالية لرجالكن لفظتهم بعد أن عجمتهم وشنئتهم بعد أن سبرتهم فقبحاً لفلول الحد واللعب بعد الجد وخور القناة وخطل الرأي وبئسما قدمت لهم أنفسهم ان سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون) صدقت مولاتنا وسيدتنا فاطمة الزهراء بنت النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
يتحدث المؤرخون والمحدثون عن هذا الكلام الفاطمي بعنوان خطبة فاطمة الزهراء الثانية وهي كالخطبة الاولى الفدكية المشهورة بالكلام البليغ الذي يصف الحالة الإجتماعية التي عاشتها امتنا الإسلامية بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، غير أن هذ الخطبة لم تلق الإهتمام الكافي بها بالرغم من أن فيها خصائص ومميزات قد لا نجدها في سائر الخطب والكلمات.
أحد مميزات هذه الخطبة:
أنها مركزة تركيزاً واضحاً على قضية الخلافة والإمامة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فالخطبة الفدكية هي أشبه بدورة معارف عامة في الدين، والتي تبدأ بالحديث عن صفات الله عز وجل وعن قضايا التوحيد ثم تثني بذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأدواره في الامة وما ذا صنع، وتتعرض لحال العرب قبل الإسلام وكيف ان الله أنقذهم برسول الله، وتتحدث عن تاريخ الدعوة الإسلامية وكيف ان أمير المؤمنين عليه السلام كان المحور فيها، ثم تتحدث عن قضايا التشريعات الدينية وفلسفتها ومقاصدها وتعطف على جملة من الاحكام الشرعية ثم تتحدث عن مناقشة ومناظرة بديعة عن قضية الميراث وأحكامه وآياته وتفند بذلك حجة الخلافة فيما يدعوه بأن النبي قال ( إنا معاشر الانبياء لا نورث )، ثم تنتهي بالإحتجاج عليهم ببيان بليغ ثم تستنهض الأنصار وتستفز فيهم رجولتهم للدفاع عن الإمامة.
أما الخطبة الثانية فهي بشكل خاص ومحدد حول إمامة أمير المؤمنين عليه السلام وحول إدانة وتقريع الانصار والمهاجرين على حد سواء عندما لم ينهضوا لنصرة أمير المؤمنين عليه السلام وحول الخطيئة التي ارتكبت عندما أبعد أمير المؤمنين عن الخلافة وحقيقة ذلك والنتيجة التي سوف تترتب على هذا الإبعاد، فلا نجد في هذه الخطبة أحاديث عقائدية حول الله سبحانه وتعالى ولا حول رسول الله صلى الله عليه وآله ولا أحكام شرعية.
يظهر أن هذه الخطبة كانت تالية لخطبة الزهراء في المسجد حتى أن بعضهم ذكر أنها كانت في آخر أيامها سلام الله عليها، وكأنما الموجود فيها هو الموقف النهائي الذي لم يتغير من البداية حتى الاخير، فمن حيث وصولها إلينا نجد ان هناك عناية نكتشفها من خلال تعدد الوسائط التي وصلت إلينا بواسطتها هذه الخطبة كالنساء والرجال الذين وصلت عبرهن هذه الخطبة وهم من أسرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأقاربه كابن عباس الذي كان لصيقاً بأمير المؤمنين عليه السلام وكان من المدافعين على ما هو التحقيق على خلافة أمير المؤمنين وإمامته وكان متصدياً حتى بعد أن تولاها الآخرون فقد كان يناقش ويناظر ويحاور ويحتج، وأيضاً عبد الله بن الحسن المثنى ابن الحسن السبط الذي نقلها إما عن والدته عليها السلام أو نقلها من جده الحسن المجتبى عليه السلام، ومن الكتاب الذين كتبوا هذه الخطبة من غير الإمامية هو ابن طيفور البغدادي الذي توفى عام 280 للهجرة وقد نقلها في كتابه بلاغات النساء بأنها خطبة بليغة ومتفوقة في هذا الجانب، ونقلها قبل أن ينقلها بعض علماء الإمامية كالشيخ الصدوق المتوفى بعده بحوالي قرن من الزمان، وهناك أشخاص أيضاً من غير الأسرة النبوية وصلت عن طريقهن هذه الخطبة وهذا يبين أن هناك عناية واهتمام من قبل بيت النبوة لإيصال هذه الخطبة، ومن هؤلاء الأشخاص سويد بن غفلة وهو من أصحاب امير المؤمنين عليه السلام وبالطبع لم يكن موجوداً أثناء الخطبة لأنها خطبة لمجتمع نسائي في بيت فاطمة الزهراء عليه السلام وهن عدداً من نساء المهاجرين والأنصار الاتي جئن لبيت فاطمة يعدنها أو يزرنها، فلما استقر بهن المقام سألن الزهراء عليها السلام كيف أصبحت فردت الزهراء عليها السلام بهذه الخطبة، فسويد بن غفلة وصلت له هذه الخطبة عن طريق أحد من الرجال كأمير المؤمنين عليه السلام أو الحسين أو الحسن عليهما السلام.
السيدة الزهراء عليها السلام بدلاً من ان تتحدث عن حالها البدني لمن زارها فإنها تتحدث عن حال الامة الإسلامية المريض وهذا له معنى عظيم لأن البعض قد تكون الدنيا عنده نفسه كما يعبرون عنه ( إذا نجوت فلا يضرني من هلك )، والبعض الآخر يهتم بحال الامة ومن يكون على الضلال ويأسى لحالهم، فقالت الزهراء عليها السلام لهؤلاء النسوة: (أصبحت والله عائفة لدنياكن قالية لرجالكم لفظتهم بعد أن عجمتهم وشنئتهم بعد أن سبرتهم) ومعنى ذلك أنها سلام الله عليها أبغضت هؤلاء الرجال بعد اختبار وتجربة لأنهم أمروا بمودة ذات القربى ولكنهم فشلوا في اول امتحان لهم وأمروا بطاعة أمير المؤمنين عليه السلام بعد أن بايعوه بالولاية في يوم الغدير قاموا بالتنازل عن بيعتهم وترك امير المؤمنين عليه السلام.
وتعقب على ذلك: ( فقبحاً لفلول الحد واللعب بعد الجد وخور القناة وخطل الرأي وبئس ما قدمت لهم أنفسهم ان سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون )، فهذه من صفات بعض المجتمعات والفئات التي يكون فيها معدل العواطف عال ولكنهم حين الإرادة والعمل لا يكون لديهم موقف وكأنهم يشابهون ما قاله الفرزدق في توصيف أهل الكوفة عندما قال: قلوبهم معك وسيوفهم عليك.
بعد ذلك قالت سلام الله عليها: ( ويحهم أن زحزحوها عن رواسي الرسالة وقواعد النبوة ومهبط الوحي الأمين والطبين بأمر الدنيا والدين ألا ذلك هو الخسران المبين)، فهنالك إشارة إلى ذلك الخط اقرشي المناوئ لأمير المؤمنين عليه السلام عندما قالت زحزحوها، فالزحزحة ليست بالشيء البسيط وإنما تحتاج إلى بذل مجهود كما قال تعالى في كتابه الكريم: ( فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز ) أي أنه يحتاج إلى سعي وبذل مجهود حتى يخرج من النار ويدخل الجنة، ونلاحظ من ذلك أن هناك نية مسبقة من القوم للقيام بهذا العمل حتى يزيحوا هذه الصخرة التي أخذت بالأعناق وهي قضية أمير المؤمنين عليه السلام كما قال الشاعر: وضربته كبيعته بخم معاقدها من القوم الرقاب، فهذه البيعة معقدها الرقاب وهي شيء صعب بالنسبة لهؤلاء القوم لأن البيعة معناها أن يبيع الإنسان نفسه ويشتري بمن يبايع رضا الله سبحانه وتعالى، ولهذا قاموا وزحزحوا هذه البيعة عن رواسي الرسالة وقواعد النبوة ومهبط الوحي الامين والطبين، ومعنى الطبين هو من لديه أقصى درجات الخبرة بأمور الدنيا والدين وهو أمير المؤمنين عليه السلام.
من جملة مناظرات ابن عباس عندما سأل أحد الخلفاء عن سبب زحزحة هذه الرسالة عن أمير المؤمنين فقد كان رده هو: بأنهم استصغروا سنه، فقال له ابن عباس: سبحان الله ما استصغره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عندما أعطاه سورة براءة وأخذها من ذلك الآخر واستصغرتموه أنتم، فنلاحظ إذاً أن القضية ليست في صغر السن وإنما كان سبب تأخير أمير المؤمنين عليه السلام عن الخلافة هو لأنهم نقموا منه نكير سيفه وشدة وطأته وقلة مبالاته بحتفه ونكال وقعته وتنمره في ذات الله عز وجل، فحولوا هذه الصفات إلى مثالب.
وتكمل الزهراء عليها السلام فتقول: والله لو تكافوا عن زمام نبذه رسول الله إليه لاعتلقه ولسار بهم سيراً سجحاً لا يكلم خشاشه ولا يتعتع راكبه ولأوردهم منهلاً نميراً فضفاضاً تطفح ضفتاه ولأصدرهم بطاناً قد تحرى بهم الري غير متحل مه بطائل إلا بغمر الماء وردعة سورة الساغب)، ومعنى ذلك أنهم لو كفوا عن الشيء الذي أعطاه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لأمير المؤمنين عليه السلام وهو الزمام والقيادة لتغيرت الأمور وسارت بهم سيراً سجحاً أي متسلسل وهادئ وهانئ، لا يكلم خشاشه ولا يتعتع راكبه أي لا ينجرح فيه الإنسان، ولأوردهم منهلاً نميراً فضفاضاً وهذا تعبير عن حسنات الشريعة الإسلامية وخيراتها ونعيمها وبركاتها، ولأصدرهم بطاناً قد تحرى بهم الري وهذا تشبيه بالدليل الذي يعرف مناطق المياه في الصحراء حتى لا يعطش ويهلك من معه وهو يأخذ الشيء القليل منه بغمر الماء أي القدح الصغير وهذا تطابق مع كلام أمير المؤمنين عليه السلام في توصيف خلافة بعض الخلفاء فهو وصف خلافتهم بأن صاحبها كراب الصعبة أي الناقة المتمردة إن أشنق لها خرم أنفها وإن أسلس لها تقحم فمني الناس لعمر الله بخبط وشماس وتلون واعتراض.
وبعد ذلك تقول عليها السلام: ( ألا هلم فاسمع وما عشت أراك الدهر عجباً، فقد أعجبك الحادث إلى أي سناد استندوه وبأي عروة تمسكوا، استبدلوا الذناب بالقوادم والعجز بالكاهل)، تشبه الزهراء عليها السلام ذلك بالطيور التي لديها انواع مختلفة من الريش حتى يسهل عليها عمليه الطيران، فالطير يكون ريشه من الامام خفيف ومنساب ويسمى القوادم وأما من الخلف فيكون قوي وخشن ويسمى الذناب ولكن عندما ينعكس الأمر فلا يمكن للطائر ان يطير، فكذلك هو حال الأمة عندما قالت الزهراء عليها السلام انهم استبدلوا الذناب بالمقادم أي استبدلوا أمير المؤمنين الذي كان من المفترض ان يكون في المقدمة ويكون قائد الامة بمن لا يستحق.
تكمل الزهراء خطبتها: ( أما لعمر إلهك لقد لقحت، فنظرة ريثما تنتج ثم احتلبوا ملئ القعب دماً عبيطاً وذعافاً ممقراً، هنالك يخسر المبطلون ويعرف التالون غب ما أسس الأولون ) أي ان الفتنة والمشكلة والمرض قد حصل وأصبح علي جليس بيته، فمهلاً وانتظروا حتى تنتج، فقدت شبهت الزهراء عليها السلام نتائج هذه الخلافة التي اخذوها من امير بالمؤمنين بالناقة أو الوالد التي تنتج لبناً بعد الولادة ولكن نتائج هذه الخلافة بدل من أن تكون لبناً ستكون دلواً كبيراً من الدم العبيط والسم القاتل السفاك، فلما تصل القضية لبني أمية ويقول الخليفة: لعبت هاشم بالملك فلا خبر جاء ولا وحي نزل ويأتي أشباه هؤلاء حينها سيعرف التالون غب ما أسس الأولون.
( ثم طيبوا عن أنفسكم نفساً واطمئنوا للفتنة جأشاً وأبشروا بسيف صارم وهرج شامل وسطوة معتد غاشم واستبداد من الظالمين يدع فيأكم زهيداً وزرعكم حصيداً فيا حسرتا عليكم وأنا بكم وقد عميت عليكم، أنلزمكموها وأنتم لها كارهون ) أي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أدى ما عليه من التوصيات لخلافة أمير المؤمنين عليه السلام وكذلك الإمام علي عليه السلام كان يشير إلى نفسه ويتقدم إلى الأمر ولكن الأمر لن يكون بالقوة والغصب ما دمتم كارهون لخلافته، فقالت بعض النساء لفاطمة عليها السلام: يا بنت رسول الله لو أن علياً تقدم في امره لما عدونا، فقالت عليها السلام: أتراه كان يترك جنازة رسول الله معطلة ثم يذهب وينازع في ميراثه؟ والله ما فعل إلا ما ينبغي له.
فالشاهد في كلام الزهراء عليها السلام أنها تقول لهم انتظروا حتى تروا ما سيكون عليه حال الأمة بعد ذلك، وصدقت سلام الله عليها، فالإنحراف من البداية ولو كان شيئاً بسيطاً فإنه يمتد وكلما صعد في عمود الزمان ابتعد وزاد في الإنحراف، فأنتج ذلك دماءً ودماراً ووصل الامر إلى أن هذه الامة تتشفى بقتل ابن بنت نبيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتتعدى على آل بيت رسول الله وتتبعهم بالقتل والسبي، كما قالت الزهراء عليها السلام: ( أمن العدل يا ابن الطلقاء تخديرك حرائرك ودماءك وسوقك بنات رسول الله سبايا قد هتكت ستورهن وأبدين وجوههن يستشرفهن أهل المناهل والمناقل وينظر إليهن الشريف والوضيع والصغير والكبير ليس لهن من ولاتهن ولي ولا من حماتهن حمي ).
لعن الله ظالميكم وغاصبيكم حقكم يا آل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.