كتابة الأخت الفاضلة زهراء محمد
قال أمير المؤمنين عليّ عليه السلام: (أَمَا وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ لَوْ لَا حُضُورُ الْحَاضِرِ وَقِيَامُ الْحُجَّةِ بِوُجُودِ النَّاصِرِ وَمَا أَخَذَ اللَّهُ عَلَى الْعُلَمَاءِ أَلَّا يُقَارُّوا عَلَى كِظَّةِ ظَالِمٍ وَلَا سَغَبِ مَظْلُومٍ لَأَلْقَيْتُ حَبْلَهَا عَلَى غَارِبِهَا وَلَسَقَيْتُ آخِرَهَا بِكَأْسِ أَوَّلِهَا وَلَأَلْفَيْتُمْ دُنْيَاكُمْ هَذِهِ أَزْهَدَ عِنْدِي مِنْ عَفْطَةِ عَنْز.
قَالُوا وَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ السَّوَادِ عِنْدَ بُلُوغِهِ إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ مِنْ خُطْبَتِهِ فَنَأوَلَهُ كِتَاباً قِيلَ إِنَّ فِيهِ مَسَائِلَ كَانَ يُرِيدُ الْاِجَابَةَ عَنْهَا فَأَقْبَلَ يَنْظُرُ فِيهِ [فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ قِرَاءَتِهِ] قَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَوِ اطَّرَدَتْ خُطْبَتُكَ مِنْ حَيْثُ أَفْضَيْتَ . فَقَالَ: هَيْهَاتَ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ تِلْكَ شِقْشِقَةٌ هَدَرَتْ ثُمَّ قَرَّتْ).
*سبب تسمية هذه الخُطبة...سُميت هذه الخطبة بالشقشقية نسبة إلى آخر مقطع من كلام أمير المؤمنين عليه السلام وهو قوله: (تِلْكَ شِقْشِقَةٌ هَدَرَتْ ثُمَّ قَرَّتْ) والشقشقة في اللغة تعني زبد يُخرجه البعير من داخل جوفة إلى فمه والإمام عبّر عنها بالشقشقة لأنه خرجت من وجدانه عليه السلام من غير تخطيط ولا ترتيب كأنما هو بوحٌ ترقرق على سطح الكَلِم.
*دلائل إثبات هذه الخُطبة لأمير المؤمنين عليه السلام...
تعرض كتاب نهج البلاغة للإنكار وعدم صحة نسبته للإمام عليّ عليه السلام من قِبل بعض عُلماء مدرسة الخلفاء وبالخصوص هذه الخُطبة نظراً لاحتوائها على مضامين لا تتناسب مع معتقدهم فالبعض نسب النهج للشريف الرضي أي هو من كتبه وألّفه وبعضهم للشريف المرتضى وآخر اكتفى بالإنكار فقط. أما بالنسبة للإمامية وعموم الشيعة والمحققون من أتباع مدرسة الخلفاء والعارفون بأساليب اللغة العربية يؤكدون أنّ النهج للإمام عليّ عليه السلام وأنّ هذه الخُطبة أيضاً هي للإمام عليه السلام وفيما يلي بعض ما ذُكر في إثبات ذلك:
*ذكر العلامة المحقق المرحوم الخطيب السّيد عبد الزهراء الحُسيني في كتابه المُعنون باسم ( مصادر نهج البلاغة و أسانيده ) المطبوع في 8 مجلدات أو أكثر بحسب اختلاف الطبع مادة ممتازة لمن أراد البحث في هذا الموضوع، فبدأ أولاً بذكر من أرّخ خُطب الإمام عليّ عليه السلام وكلماته قبل ولادة الشريف الرضي بقرون مثل التابعي زيد الجُهني الذي نقل في كتابه خطب وكلمات أمير المؤمنين عليه السلام وهو متوفى سنة 92ه وبين هذه السنة والسنة التي توفي فيها الشريف الرضي الذي يُدعى أنه من أَلّف هذه الخُطب ثم نسبها للإمام 3 قرون حيث أن الشريف الرضي متوفى سنة 406ه، وكذلك نُقل عن مسعدة ابن صدقة وهو من أصحاب الإمام الصادق عليه السلام مما يعني ذلك قبل ولادة الشريف الرضي بقرنين من الزمان.
* وأما بخصوص هذه الخطبة الشقشقية والتي تُسمى أحياناً بالمُقمصة نظراً لقولة عليه السلام: (أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ تَقَمَّصَهَا فُلَانٌ وَإِنَّهُ لَيَعْلَمُ أَنَّ مَحَلِّي مِنْهَا مَحَلُّ الْقُطْبِ مِنَ الرَّحَا يَنْحَدِرُ عَنِّي السَّيْلُ وَلَا يَرْقَى إِلَيَّ الطَّيْرُ) فقد ذكرها العديد من العلماء من بينهم الشيخ ابن ميثم البحراني الذي له ثلاثة شروح على نهج البلاغة منها الصغير والمتوسط والكبير وقال في بعض هذه الشروح : ( إنني أنا ميثم رأيت هذه الخُطبة في كتاب الإنصاف لابن قبا وهو متوفي قبل ولادة الشريف الرضي) فإذا كانت هذه الخطبة مُدونة قبل ولادة الشريف الرضي فكيف يكون هو الذي كتبها!!
وكذلك ذكر أنها موجودة بخط أبا الحسن ابن الفرات وهو وزير من وزراء المقتدر العباسي المتوفى سنة 320ه مما يعني ذلك قبل ولادة الشريف الرضي بـ 35 سنة فلا يُعقل بعد ذلك أن يكون الشريف الرضي هو الذي ألّفها ونسبها للإمام عليه السلام.
*ونُقلت هذه الخطبة أيضاً في أخبار الإمامية من قِبل الشيخ الصدوق في كتابه (معاني الأخبار) والشيخ الصدوق هو في رُتبة أُستاذ أُستاذ الشريف الرضي حيث أن الشريف الرضي هو تلميذ للشيخ المفيد والشيخ الصدوق أُستاذ للشيخ المفيد فيكون في رُتبة أستاذ أستاذه ومع ذلك نقلها في كتابه فكيف يُعقل أن يكون الشريف الرضي هو من كتبها، وكذلك نقلها الشيخ المفيد في كتاب آخر وشرحها أخْ الشريف الرضي وهو المرتضى وله شرحٌ لغوي أيضاً بل وناقش هذه الخطبة أحد أئمة المعتزلة وهو أبو علي الجُبائي المتوفى سنة 415ه وهو مُعاصر للشريف الرضي المتوفى سنة 406ه وشرع في كتابة كتاب يتناول موضوع الإمامة والخلافة وفيه يردّ على بعض الفقرات التي جاءت في هذه الخطبة الشقشقية وهو بها يُريد أن يُفنّد هذه الكلمات وهو بهذا يُقرّ صحة نسبتها للإمام عليّ عليه السلام ،ولو كانت للشريف الرضي لكان الأمر عليه هيّن وسهل في القول بأنها لا تُنسب للإمام بل تُنسب للشريف الرضي.
*سبب إصرار البعض من عُلماء مدرسة الخُلفاء على عدم صحة نسبة الخطبة الشقشقية للإمام عليّ عليه السلام؟
انما ذلك النفي وعدم تقبل هذه الكلمات بسبب المضامين المهمة التي تناولها الإمام عليّ عليه السلام والتي ترتبط بعرض أفضلية الإمام عليّ عليه السلام وتقييمه لخلافة الخُلفاء الثلاثة وطرق اختيارهم كما توثق هذه المضامين 30 سنة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآلة حيثُ أنها تُعد من أهم سنوات المذهب الإسلامي وأكثرها حساسية وأهمية لأن في هذه السنوات تم التأسيس فيها لما بعدها، ويُقدم الإمام عليه السلام في شقشقته نظرية ورؤية حول هذه السنوات بكاملها وهي لا تتوافق ورأي بعض العلماء من مدرسة الخلفاء ومن قال بعدم صحة هذه الخطبة للإمام عليّ بل هي على الضد تماماً من آرائهم فما كان منهم إلا إنكار سند هذه الخطبة وافتراض عدم صحتها ونسبتها للإمام عليّ عليه السلام.
*تأملات في الخُطبة...
1/ في ابتداء الخطبة يُقرّر الإمام عليّ عليه السلام أفضليته وأولويته بالخلافة من الجميع وهو واقع لا يمكن أن تنسجم معه مدرسة الخلفاء لأن هذه المدرسة قائمة على أساس أن التفضيل هو بالتدريج حسب الخلافة فيكون بذلك الخليفة الأول هو الأفضل ثم الثاني ثم الثالث ثم عليّ عليه السلام ، وبإقرار أمير المؤمنين بالأولوية والأفضلية فهذا يكون غير مقبول لديهم ويُخالف تلك النظرية القائمة على التفضيل ويهدم الأُسس التي بُنيت عليه نظريتهم ،و كذلك يُشوش ويُشتت معتقدهم في الطريقة التي انتقلت فيها الخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وآلة حيث أن جريان استلام الخلافة بالشكل المتعارف هو الصحيح والحَسَن فإذا جاء أمير المؤمنين وانتقد هذه المراسيم في انتقال الخلافة فسيهدم بذلك أساساً مهماً تقوم عليه هذه المدرسة.
2/ يقول الإمام في أول الخطبة: (أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ تَقَمَّصَهَا فُلَانٌ وَإِنَّهُ لَيَعْلَمُ أَنَّ مَحَلِّي مِنْهَا مَحَلُّ الْقُطْبِ مِنَ الرَّحَا يَنْحَدِرُ عَنِّي السَّيْلُ وَلَا يَرْقَى إِلَيَّ الطَّيْرُ) التقمص[1] هو عبارة عن لبس القميص بصعوبة وهو ما تحتاج فيه إلى زيادة جُهد لكي يستقر في البدن ويُصور الإمام هنا الخلافة بالقميص الذي لُبِس عُنوة مع علم صاحبه بأن هذا القميص ليس له، والمعنى أن الخليفة الأول قد أخذ موقع الخلافة وهو يعلم بأن الأحق بهذا الموقع أمير المؤمنين عليه السلام وهنا يُشير الإمام إلى معنى متقدم وهو أنه ليس هو فقط من يعترف بأحقيته وأفضليته وأهليته للخلافة وإنما أيضاً الخليفة الأول يعلم ويُقر بذلك وبناء على ذلك فإن نظرية التفضيل القائمة عند مدرسة الخلفاء والتي تقول بأن عليّ هو الرابع فإن هذا المقطع من هذه الخطبة يُفنّد ذلك ويقول بأن الإمام عليّ هو الأول ولا مُنافس له في وهو في موقع الخلافة كالقطب من الرحى[2] أي بمثابة المركز للخلافة الذي يُعتمد عليه في ضبط دوران وتقلب أحوال الرعية ، كما يُشير الإمام إلى ذات المعنى في مقطع آخر من الخطبة بقوله: (فَيَا لَلَّهِ وَلِلشُّورَى مَتَى اعْتَرَضَ الرَّيْبُ فِيَّ مَعَ الْأَوَّلِ مِنْهُمْ حَتَّى صِرْتُ أُقْرَنُ إِلَى هَذِهِ النَّظَائِر)ِ ويؤكد هنا الإمام مرة أخرى على عدم الشك بأنه هو الأفضل والأنسب للخلافة حتى من الأول فضلاً عن مثل طلحة والزبير ، وبذلك لا يستطيع أتباع مدرسة الخلفاء أن يستقبلوا هذا الكلام لأن بناء النظرية لديهم قائم على خلاف ذلك حتى افتعل بعضهم حديث نُسب إلى عليّ عليه السلام وهو حديث كاذب بلا ريب يقول فيه الامام: ( لا أُؤْتى بأحد يُفضِلُني على فلان إلا جلدته حتى المفتري) فكيف يُطابق مثل هذا المعنى بما قاله عليه السلام في هذه الخطبة بأنه في أعلى قمة بحيث أن الطير لا يستطيع أن يرقى إليها لعلوها وسموها.
*مراحل تقييم الإمام عليّ عليه السلام لطرق انتقال الخلافة...
تُقيّم هذه الخطبة أنماط الانتقال السياسي الذي حصل بعد زمان رسول الله صلى الله عليه وآلة على النحو التالي:
1/ الخلافة الأولى سماها أمير المؤمنين عليه السلام تقمُص الخلافة وهي حالة من لبس قميص لم يكن مناسب لشخص وتم إلباسه إياه عُنوة وموقف الإمام من ذلك قوله: (وَطَفِقْتُ أَرْتَئِي بَيْنَ أَنْ أَصُولَ بِيَدٍ جَذَّاءَ أَوْ أَصْبِرَ عَلَى طَخْيَةٍ عَمْيَاءَ يَهْرَمُ فِيهَا الْكَبِيرُ وَيَشِيبُ فِيهَا الصَّغِيرُ وَيَكْدَحُ فِيهَا مُؤْمِنٌ حَتَّى يَلْقَى رَبَّه فَرَأَيْتُ أَنَّ الصَّبْرَ عَلَى هَاتَا أَحْجَى فَصَبَرْتُ وَفِي الْعَيْنِ قَذًى وَفِي الْحَلْقِ شَجًا أَرَى تُرَاثِي نَهْباً) وفي هذا المقطع الإمام يُفنّد رأي كل من سيقول أن الإمام أبطأ قليلاً في المبايعة ثم تبين له اشتباه ذلك وجاء للمبايعة وتم ذلك في يُسر بقوله أنه لم يتم كذلك وإنما كان بالخيار بين أن أصول بيد جذاء أي مقطوعه بلا أنصار وبين أن أصبر على طخية عمياء لا هداية فيها فكان اختيار الإمام الصبر بمرارة وعدم رضا وفي العين قذى[3] وفي الحلق شجى[4] أي الصبر بمرارة .
2/ أما الانتقال الثاني للخلافة فيقول الإمام عليه السلام: (فَيَا عَجَباً بَيْنَا هُوَ يَسْتَقِيلُهَا فِي حَيَاتِهِ إِذْ عَقَدَهَا لِآخَرَ بَعْدَ وَفَاتِهِ لَشَدَّ مَا تَشَطَّرَا ضَرْعَيْهَا) يُشير الإمام هنا إلى طريقة انتقال الخلافة للثاني ويؤكد على أنه الخليفة الأول استقال البيعة وقال (أقيلوني) وهذا مما هو معلوم ومشهور فكيف بمن لا يُريد أن يتحمل المسؤولية والتّبعات ويقول أقيلوني أن يُدلي بها إلى غيره حتى يتحمل مسؤوليتها في الاستمرار ما بعد مماته.
ووصف الإمام عليّ عليه السلام هذه الخلافة بأنها في (حَوْزَةٍ خَشْنَاءَ يَغْلُظُ كَلْمُهَا وَيَخْشُنُ مَسُّهَا وَيَكْثُر ُالْعِثَارُ فِيهَا وَالِاعْتِذَارُ مِنْهَا فَصَاحِبُهَا كَرَاكِبِ الصَّعْبَةِ إِنْ أَشْنَقَ لَهَا خَرَمَ وَإِنْ أَسْلَسَ لَهَا تَقَحَّمَ) ففي هذه الخلافة كثُرت العثرات والاجتهادات في مقابل النصوص التشريعية ويُشبهها الإمام براكب الدابة الصعبة فإن شُدد عليها انخرم فمها وإن أُرخي لها تقحمت في المهالك. [5]
3/ يقول الإمام في الانتقال الثالث: (حَتَّى إِذَا مَضَى لِسَبِيلِهِ جَعَلَهَا فِي جَمَاعَةٍ زَعَمَ أَنِّي أَحَدُهُمْ فَيَا لَلَّهِ وَلِلشُّورَى مَتَى اعْتَرَضَ الرَّيْبُ فِيَّ مَعَ الْأَوَّلِ مِنْهُمْ حَتَّى صِرْتُ أُقْرَنُ إِلَى هَذِهِ النَّظَائِرِ لَكِنِّي أَسْفَفْتُ إِذْ أَسَفُّوا وَطِرْتُ إِذْ طَارُوا فَصَغَا رَجُلٌ مِنْهُمْ لِضِغْنِهِ وَمَالَ الْآخَرُ لِصِهْرِهِ)
في الطريقة الثالثة لانتقال الخلافة يقول الإمام عليه السلام جُعلت الخلافة في ستة أشخاص للمشاورة والانتخاب وزُعم أني أحدهم وهم طلحة والزبير وعبدالرحمن بن عوف وسعد ابن ابي وقاص وعثمان بن عفان، وبالرغم من أن الإمام يعلم بأحقيته في الخلافة وأنه لا يعدل به حتى الأول فضلاً عن هذه النظائر إلا أنه جاء للإقامة الحجة والنتيجة كانت تتبع المقدمة لأنه من الواضح ان الخلافة لن تأتي للإمام عليّ عليه السلام بهذا الترتيب وفي هذا المعنى يُفسر قول الإمام ( فَصَغَا رَجُلٌ مِنْهُمْ لِضِغْنِهِ وَمَالَ الْآخَرُ لِصِهْرِهِ) الشيخ محمد عبدو المصري المعروف من الأوائل الذين شرحوا النهج شرحاً لُغوياً وهو مُعجب جداً بخطب أمير المؤمنين وكلماته ويقول في ذلك المقطع من الخطبة أن سعد ابن ابي وقاص أُمه حمنه بنت سفيان الأموي فأخواله هم الذين قتلهم عليّ ابن ابي طالب وهم عتبه وشيبة والوليد وبالتالي يكون الضغن وهو نوع من البُغض وعدم الانسجام لدى سعد ابن ابي وقاص بالرغم من أنه يروي روايات قوية المعنى في حق أمير المؤمنين إلا أنه من الذين امتنعوا عن مُبايعة الإمام لا في زمان الشورى ولا عندما بايع الناس اجمع الإمام عليه السلام لأنه صغى لضغنه، ومال الآخر لصهره وهو عبدالرحمن ابن عوف الذي تربطه مُصاهرة مع الخليفة عثمان وعثمان أيضاً لن ينتخب عليّ لقربه من عبدالرحمن ابن عوف وبالتالي تساوت الكفتان ورُجحت الكفة التي فيها عثمان كما هو معهود لهم ومُقرر لهم فعله في المشاورة.
أما في وصف الإمام لهذه الخلافة فيقول: (إِلَى أَنْ قَامَ ثَالِثُ الْقَوْمِ نَافِجاً حِضْنَيْهِ بَيْنَ نَثِيلِهِ وَمُعْتَلَفِهِ وَقَامَ مَعَهُ بَنُو أَبِيهِ يَخْضَمُونَ مَالَ اللَّهِ خِضْمَةَ الْإِبِلِ نِبْتَةَ الرَّبِيعِ) ففي هذه الخلافة كما يصف الإمام عليّ عليه السلام أضحت السيطرة والاستئثار وأخذ الأموال العامة للمسلمين هي المعلم البارز وكان رائد ذلك الخليفة الذي لم يُلاحظ الضرب على أيدي الآخرين إلى أن يقول الإمام عليه السلام : (إِلَى أَنِ انْتَكَثَ عَلَيْهِ فَتْلُهُ وَأَجْهَزَ عَلَيْهِ عَمَلُهُ وَكَبَتْ بِهِ بِطْنَتُهُ).
*في الفترة التي أعقبت أمير المؤمنين عليه السلام يقول فيها:
(فَمَا رَاعَنِي إِلَّا وَالنَّاسُ كَعُرْفِ الضَّبُعِ إِلَيَّ يَنْثَالُونَ عَلَيَّ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ حَتَّى لَقَدْ وُطِئَ الْحَسَنَانِ وَشُقَّ عِطْفَايَ مُجْتَمِعِينَ حَوْلِي كَرَبِيضَةِ الْغَنَمِ فَلَمَّا نَهَضْتُ بِالْأَمْرِ نَكَثَتْ طَائِفَةٌ وَمَرَقَتْ أُخْرَى وَقَسَطَ آخَرُونَ)
وبعد الخليفة الثالث اجتمع الناس حول أمير المؤمنين عليه السلام يطلبون البيعة فلما أمسك الإمام يده أبسطوها حتى وطئ الحسنان وشُق عِطْفه من كثرة الناس حوله، فلما نهص بالأمر نكثت طائفة وهم أصحاب الجمل الذين بايعوا الإمام ومع ذلك نكثوا بيعتهم وقسطت _أي خالفت العدل وارتكبت الظلم_ أخرى وهم أهل الشام ومرق آخرون كما يمرق السهم من الرمية وهم مرقوا عن الطاعة والدين وهم الخوارج، ولكن ماهي دوافعهم يقول في ذلك الإمام عليه السلام: ( كَأَنَّهُمْ لَمْ يَسْمَعُوا اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَقُولُ تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ بَلَى وَاللَّهِ لَقَدْ سَمِعُوهَا وَوَعَوْهَا وَلَكِنَّهُمْ حَلِيَتِ الدُّنْيَا فِي أَعْيُنِهِمْ وَرَاقَهُمْ زِبْرِجُهَا) يتبين من كلامه عليه افضل التحية والسلام أن الدوافع التي دفعت هؤلاء هي دوافع دنيوية مادية ولم تكن لطلب الثأر أو لإصلاح دين وكان موقف أمير المؤمنين عليه السلام من ذلك أن قال: (أَمَا وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ لَوْ لَا حُضُورُ الْحَاضِرِ وَقِيَامُ الْحُجَّةِ بِوُجُودِ النَّاصِرِ وَمَا أَخَذَ اللَّهُ عَلَى الْعُلَمَاءِ أَلَّا يُقَارُّوا عَلَى كِظَّةِ ظَالِمٍ وَلَا سَغَبِ مَظْلُومٍ لَأَلْقَيْتُ حَبْلَهَا عَلَى غَارِبِهَا وَلَسَقَيْتُ آخِرَهَا بِكَأْسِ أَوَّلِهَا وَلَأَلْفَيْتُمْ دُنْيَاكُمْ هَذِهِ أَزْهَدَ عِنْدِي مِنْ عَفْطَةِ عَنْزٍ) أي لولا هذه المسؤولية الدينية والشرعية التي أُلقيت على عاتق أمير المؤمنين عليه السلام من الذين طلبوا منه البيعة لما كان راغب في الإقدام على هذا الأمر لأن الدُنيا عند أمير المؤمنين لا تستحق ولا تساوي شيئاً ويُشبهها بعفطة العنز وهي الرُذاذ الذي يخرج من أنف الماعز كما العُطاس عند الإنسان.
*ويصف الإمام حاله في بعض فقرات هذه الخطبة قائلا: (فَصَبَرْتُ عَلَى طُولِ الْمُدَّةِ وَشِدَّةِ الْمِحْنَةِ) خمسٌ وعشرون سنة هي الفترة التي قضاها أمير المؤمنين عليه السلام وهو في حالة التُراث المنهوب ففي بعض الأحيان الإنسان قد يُنهب منه بُستانه وهذا الناهب قد يهتم بهذا البستان ويعتني فيه ليزدهر ويستمر في إعطاء الثمر في هذه الحالة يكون الألم في الصاحب الأصلي لهذا البُستان أخف وطأة مما لو كان البستان منهوب والناهب مهمل لهذا البستان فتموت الأشجار وينقطع الثمر فيه وتذهب الجهود سُدىً ، كذلك أمير المؤمنين عليه السلام يرى تُراثه منهوباً ولا يُقام فيه بالتي هي أحسن حتى أن العثار والأخطاء قد كَثُرت فيه والأحكام الشرعية قد تغيرت حتى إذا وصلت الخلافة إليه لم يستقر فيها أيضاً بسبب ذات الخط الذي أبعده عن الخلافة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآلة طول هذه المدة سعّر الحروب أيضاً في خلافته.
*من خلال هذا العرض تبيّن ما هو الدافع الذي يدفع قسم من عُلماء المدرسة الأخرى لإنكار أصل نهج البلاغة بل أحياناً لإنكار خصوص هذه الخطبة منه كما نقل السيد محسن الأمين العاملي رحمه الله عن الأمير شكيب أرسلان وهو أحد الكتاب المعروفين في عالم المسلمين يقول إن الدافع وراء إنكار هذه الخطبة هو مضمونها فلو كان هذا المضمون أخلاقي أو عقائدي عاماً حول صفات الله لما استنكرها هؤلاء ولما نُفيت عن الإمام عليّ عليه السلام ولكن هذه الخطبة الشقشقية تحتوي على قضايا إذا ثبت أنها عن عليّ وفُهم مضامينها لابد لعالم المدرسة الأخرى أن يتخلى عن كثير من قناعاته وهذا مالا سبيل إليه .
[1] تقمص زيادة في التفعّل وكلما زاد مبنى الكلمة زاد في معناها
[2] الرحى عبارة عن حجران أحدهما فوق الآخر ويعتمدان في دورانهما على قُطب في وسط الحجرين
[3] القذى كالشوكة في عين الإنسان
[4] الشجى كالعظم المعترض في حلق الإنسان
[5] جرت العادة أن توضع الحكمة في فم الفرس حتى تتم السيطرة عليه بواسطتها