كتابة الأخ الفاضل صادق اللواتي. عمان.
قال الله العظيم في كتابه الكريم :
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ ﴿10﴾ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴿11﴾ وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ ﴿12﴾ (1) صدق الله العلي العظيم.
هذه الآيات المباركات من سورة التحريم تسلك مسلك ضرب المثل؛ لتقريب الشيء الفكري المُجَرّد بمَثل خارجي مُجَسّد، وهي طريقة موجودة في اللغات عموماً، وفي اللغة العربية على وجه الخصوص، وذلك لأن الإنسان يتعامل مع المجسّدات والأمثال الخارجية بسهولة أكثر من تعامله مع المجرّدات والأفكار.
يرى بعض الباحثين في الأديان أن من جملة الأسباب التي دعت الناس في الأزمنة الجاهلية إلى اتخاذ الأصنام والأوثان والرموز الخارجية كآلهة والتقرب إليها هو أن الإنسان بطبيعته يجد سهولة أكبر في التعامل مع شيءٍ مجسّدٍ خارجي يعرف أبعاده وحدوده، فيراه، ويتلمسه، من أن يتعامل مع فكرة مجرّدة كموضوع الذات الإلهية، فهي حقيقة لا يمكن رؤيتها أو لمسها أو الإحساس بها بالحواس الخارجية. فيرى أولئك الباحثون أن هذا السبب الذي يدفع بعض الناس لاتخاذ الأمثال والأوثان والأصنام والأنصاب وغير ذلك كرموز لذلك الإله. إن الإتيان بهذا المثال ليس في مقام تبرير الفعل بالطبع، وإنما من أجل الكشف عن الطبيعة الإنسانية في تناوله وتعامله مع الأمثلة الخارجية والظاهرية بصورة أسرع من تعامله مع الأفكار والنظريات. وبناء على ذلك تقوم الكتب السماوية ويقوم الأنبياء والدعاة بتقريب الأفكار إلى الذهن الإنساني بتبيين الحقائق من خلال ضرب الأمثلة.
البيئة الصالحة ليس أثرها حتميا :
وفي القرآن الكريم، نجد حوالي عشرين صورة ضربت كأمثلة خارجية لتوضيح فكرة نظرية ومجرّدة. ومن جملة ذلك ما ورد في الآيات 10ـ 12المباركات من سورة التحريم، حيث أنها تتضمن إشارة إلى فكرة أن البيئة التي يعيش فيها الإنسان لا يجب أن تكون بالضرورة سبباً في هدايته أو ضلاله سواء كانت البيئة بيئة هداية أو ضلال. فليس صحيحاً القول بأن الإنسان هو ابن بيئته قهراً وقسراً وجبراً؛ فبإمكان الإنسان أن يتمرد على البيئة المنحرفة ويصبح إنساناً طيباً، كما أن البيئة الملتزمة لا تساوي الهداية بالضرورة. ومن أجل تقريب الفكرة يأتي لنا القرآن الكريم بنماذج خارجية وأمثلة ظاهرية.
الخيانة في الدين لا العرض :
(ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ ) (2). في هذا المثال تجسّد الكفر والجحود في أقصى درجاته بحيث أصبح مثالاً للكافرين، (امرأة نوح) النبي (وامرأة لوط) النبي أيضاً، عليهما وعلى نبينا وآله أفضل التحية والسلام، هذان النبيان الكريمان كان لدى كل واحدة منهما زوجة (كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين) وهنا إشارة إلى بيئة الصلاح، فعلى الرغم من أن نوح ولوط نبيين من أنبياء الله، إلا أن الله تعالى أراد التركيز على أن هذه البيئة كانت بيئة صالحة (عبادنا صالحين)، ولكن مع ذلك فإن المرأتان (خانتاهما). و المجمع والمتفق عليه بين علماء المسلمين هو أن الخيانة هنا لا ترتبط بأمر (العِرْض)، وإنما هي خيانة في (الدين والاتباع)، ولايُعبأ بمن قال خلاف ذلك من رأي مخالف.
تنزيه الأنبياء وعدم نقض الغرض
فتنزيه الله سبحانه وتعالى لأنبيائه من جهة، وعدم نقض الغرض من جهة أخرى يقتضي أن تكون زوجات الأنبياء غير زانيات وغير فواحش. أما تنزيه الأنبياء فهو أمر واضح؛ فلا يمكن لنبي من الأنبياء أن يأتي ويدعو الناس إلى الصلاح والفلاح والتقى، بينما زوجته يدخل ويخرج من عندها الرجال. فأي إهانة لصاحب رسالة سماوية أعظم من هذا؟
وأما نقض الغرض فهو أن الغرض من إرسال الأنبياء هو إحاطة العباد بالهدى والتقوى وجذبهم إلى النبي وتشريعاته، فكل شيء يطرد الناس عن النبي منفي عن النبي، ولذلك قيل أنه لا يجب أن يكون بالنبي نقص، أو تشوه خلقي، أو قبح وغير ذلك؛ لأن ذلك سيلزم أن ينفر منه قسم من الناس، وأي نقص أعظم من أن تكون زوجته بغية أو زانية؟ فعلى سبيل المثال، لو كنت تصلي خلف إمام جماعة، ثم علمت أن زوجته غير عفيفة، على الرغم من أنه لا تقصير له ولا تسقط عدالته بذلك، ولكن مع ذلك تجد بعض الناس يصدون عن إمام الجماعة هذا، فما ظنك بالإمام؟ وما ظنك بالنبي؟ لذلك قالوا (فخانتاهما) أي خيانة بمعنى عدم الاتباع. فكان ينتظر من كل واحدة منهما أن تتبعا نبيها وتتأثر بالهداية فهي أقرب إليه، كما أن البيئة بيئة بركة وخير واتصال بالله عزوجل، وسلوك النبي معها ينبغي أن يكون داعياً لها بأن تكون من أفضل النساء المؤمنات. لكنها لم تتأثر بهذه البيئة (فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئا وقيل ادخلا النار مع الداخلين) أي فلم يغني النبيين عن زوجتيهما من الله شيئاً. وهاتين أنموذجتين للمرأة للكافر الذي لم يتأثر بأفضل بيئة يمكن أن يحصل عليها الإنسان وهي بيئة النبوة والرسالة والاتصال بالله عزوجل. وفي هذا تحذير واضح لزوجات نبينا محمد (ص).
والبيئة الفاسدة كذلك أثرها ليس حتميا :
ثم تأتي الآيات للمثال الآخر (وضرب الله مثلاً للذين آمنوا) وهذا مثال للمؤمنين رجالاً ونساء، فعلى الرغم من أن المثال لامرأة، فلا تأتي امرأة وتقول أنها عاشت ظروفاً صعبة وقاهرة من قسوة الأب أو جهل الأم أو سوء معاملة الأخوة أو الأعمام وما إلى ذلك، فأصبحت متمردة. أفهل هناك بيئة أسوأ من بيئة سلطان متكبر جبار لا يعرف الله، بل يدعي الربوبية (فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى ) (3). وهناك قصة لا يُعرف مصدرها إلا أن بها بعض الإشارات. يقال أنه في أحد الأيام طرق إبليس الباب على فرعون ليدخل عليه. فنادى فرعون: من الذي يطرق بابي، فقيل له :أنت تقول (أنا ربكم الأعلى) كيف لا تعرف من الذي يطرق بابك؟! فتح الباب، ودخل إبليس. قال له فرعون: ما عندك؟ أجابه إبليس: أريد أن أسألك يا فرعون، هل أنت مدرك لقولك (أنا ربكم الأعلى)؟! فسأله فرعون:ولم تسأل؟ قال إبليس: أنا لُعنت وطُردت من رحمة الله بسبب سجدة لم أسجدها. قال تعالى: (قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَّدْحُورًا ۖ لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ) (4). وفي موضع آخر (وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَىٰ يَوْمِ الدِّينِ (5) يقول إبليس: كل ذلك لسجدة واحدة لم أسجدها، أفتأتي أنت يا فرعون وتدعي بأنك الرب الأعلى؟! ما الذي سيصنعه الله بك في يوم القيامة؟. فهذه إذاً بيئة يتحدى بها فرعون ربه إلى هذا المقدار، فلا أحد يقف أمامه لا في فعل منكر ولا في ترك واجب. ومن الطبيعي أن تكون زوجته خاضعة له بمقتضى الزوجية أولاً، وبمقتضى السلطة والملك ثانياً. لكنها مع ذلك قالت (رب ابن لي عندك بيتاً في الجنة ونجني من فرعون وعمله ونجني من القوم الظالمين). وهذا نموذج لك أيها المؤمن، ولكِ أيتها المؤمنة، فمهما بلغ الظرف الضاغط عليكما، فإنه لن يكون أشد من ظرف آسيا زوجة فرعون، فتحملت وصبرت وعبدت ربها، وكانت مؤمنة بالله عزوجل، وبقيت هكذا إلى أن علم فرعون منها ذلك وقتلها وذهبت شهيدة إيمانها.
كما أشارت الآيات المباركة إلى نموذج آخر ولكن هذه المرة للبيئة الاجتماعية الضاغطة ، وليست البيئة الزوجية (ومريم ابنت عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين). عاشت مريم ابنة عمران في وسط المجتمع الإسرائيلي في زمن كان الزنا فيه فاشياً في ذلك المجتمع. ولعلك تلحظ في القرآن الكريم إشارة إلى ذلك. قال تعالى ( يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (6). فكأنما القرآن يود الإشارة إلى أنها ليست من أسرة منحرفة، في حين إن صدرت من المجتمع هذه الأفعال فكأنما هو أمر متوقع، أما أن تصدر منكِ فهذا غير ممكن. بقيت مريم ابنة عمران هكذا محصنة عفيفة، لم تتأثر بشيء، وحافظت على شرفها، فأكرمها الله عزوجل بأن جعل من نسلها ابنها رسولاً نبياً وهو عيسى بن مريم (ع).
إن النماذج التي عرضتها الآيات المباركة، نموذجان للمؤمنين، وواحد للكافرين، يراد منها أمور:
منها : أن الأنبياء والأوصياء يعيشون الحالة الطبيعية في المجتمع باختلاف صوره، فلا يتصور أحد أن النبي حين يأتي إلى مجتمع ما، فإنه يعيش ضمن أجواء بها حالة من النزاهة والقداسة، والرفعة والمناقب. إنما يعيش في مجتمع طبيعي، ويتزوج وينجب في نطاق هذا المجتمع، فتجد نبياً زوجته في مستوى عالٍ ويضرب بها المثل. كما تجد زوجة أخرى في أدنى الدرجات تخونه في رسالته، ولا تعتني بدعوته، بل تتآمر عليه مع الكفار، كما هو الحال في زوجة نوح وزوجة لوط، حيث كانتا تتآمران مع الكفار على النبيين. بل نجد في قصة النبي لوط (ع) أنه لما كان قومه يأتون المنكر ويقطعون السبيل ويمارسون الشذوذ، وكانوا يعتدون على كل من يأتي لبلدهم، وعندما جاءت الملائكة لتوقع العذاب عليهم، جاءت زوجة النبي لوط إلى قومها الكافرين، وأخبرتهم بوجودهم عند النبي، وأن من له رغبة بهم فليأتي. وهذا غاية في البذاءة والشناعة؛ فلم تكن غير مؤمنة برسالة النبي وحسب، وإنما تتآمر مع الكفار وتحرضهم على ضيوف النبي.
فنجد إذاً أنبياء زوجاتهم بهذه النماذج. وفي المقابل، نجد نبياً زوجته كخديجة (ع) وهو نبينا محمد (ص). وهذا يفتح لنا الباب على مسألة أخرى، وهي ما سبب زواج الأنبياء والأوصياء المعصومين من بعض النساء المخالفات لهم؟ كما جاء المثل القرآني في الآيات السابقة، ويفترض أن تكون هناك أمثلة أخرى إلا أن القرآن الكريم جاء بهذين المثالين وهما امرأة نوح وامرأة لوط،امرأتان خانتا نبييهما. بل إن النبي محمداً (ص) كان فيما بين بعض زوجاته أموراً تحدث عنها التاريخ. ونأتي إلى المعصومين (ع) ،فنجد أن إحدى زوجات الإمام الحسن المجتبى (ع) وهي جعدة بنت الأشعث التي سمت الإمام. كما كان لكل من الإمام زين العابدين والإمام الباقر (ع) امرأة ثقفية، وكانت المرأة التي تزوجها الإمام زين العابدين (ع) تعجبه، فما لبث أن طلقها، ولما سئل عن ذلك قال: سمعتها تبرأ من علي بن أبي طالب، فكرهت أن أضم إلى تحري جمرة من جمر جهنم. ويبدو أنها كانت متأثرة بفكر الخوارج، فتركها الإمام (ع) وطلقها. وكذلك الإمام محمد الجواد (ع) تزوج أم الفضل بنت المأمون العباسي، وكانت تصطنع وتفتعل المشكلات مع أم الإمام الهادي (ع)، فقد كانت تنظر إلى نفسها نظرة استعلاء، فهي عربية وابنة الخليفة، وأم الإمام جارية مشتراة و غير عربية. فما السبب إذاً في زواج الأنبياء والمعصومين من الزوجات المخالفات لهم في توجهاتهم وأفكارهم؟ نجيب عن ذلك في نقاط :
أولاً: إن الأنبياء وآل معصومين (ع) إنما يتعاملون مع المجتمع ضمن مقاييسه العادية، لا ضمن مقاييسهم الخاصة بهم. ولو كان الأمر غير ذلك وكان تعاملهم بمقاييسهم الخاصة لما تزوجوا أبداً. فعلى سبيل المثال، لو كان رسول الله (ص) لا يتزوج إلا امرأة بمستواه، لما تزوج إلى آخر عمره، فلا توجد امرأة تكافئ رسول الله (ص). نعم هناك استثناء لأمير المؤمنين والسيدة فاطمة الزهراء (عليهما السلام)، ففاطمة كفؤ لعلي، كما ورد في النصوص الكثيرة لدينا، ولا يوجد نموذج آخر مشابه لهما. فلا يوجد كفؤ للنبي (ص) ولا لسائر الأنبياء و الأئمة (ع) ،يقول الإمام الهادي (ع) :(... ولو لم يُزوجنا الله إلا كفؤ لم يزوجنا أحد)(7). أي لو كنا نبحث عن المكافئ لنا في المستوى علماً وعملاً وتهذيباً وأخلاقاً لما وجدنا أحداُ.
فالحالة العامة إذاً هي الحالة الاجتماعية التي يتزوج فيها النبي والإمام، ويمارس فيها قدراته العادية وعلمه العادي أيضاً. فعندما يبحث عن زوجة له فإنه لا يستعين بعلمه الإلهي المذخور له من عالم الغيب؛ لأنها ليست من الأمور التي تحتاج إلى علم الغيب والعلوم الخاصة والمعجزة، فالمعصو لا يستعين بالغيبيات في كل أمر يفكر به، وإلا لما نال شيئاً من علو المقام. إنما هذه كفاءات خاصة أعطيت للنبي وللإمام لاستخدامها في مواضع خاصة وليس في كل المواضع.
فيأتي النبي أو الإمام، فيخطب امرأة ظاهرها الصلاح، وقد تبقى على صاحبها، وقد تتكشف عن امرأة أخرى، كأن تكون خارجية مثلاً، فيعرف المعصوم ذلك مع المعاشرة وطول الحديث والكلام وما شابه ذلك. على سبيل المثال، كيف يعرف الإمام الجواد (ع) أن أم الفضل عندها حالة غير طبيعية من الغيرة والأنفة، والشعور القومي الاستعلام على غيرها؟ إذاً لا بد من المعاشرة. وكذلك بالنسبة إلى زيجات رسول الله (ص)،كانت لأغراض مختلفة، فقد قبض النبي (ص) عن تسع نساء، وقد لا تجد امرأتين من نسائه يتشاكلان في الغرض من الزواج بهن. فهناك امرأة حبشية لا سند لها، كان الغرض الأول من الزواج بها هو الرعاية والحضانة لها، وحالتها لا تشبه غيرها. وأخرى قد يكون الغرض من الزواج بها هو من أجل أبيها أو أهلها أو ما شاكل ذلك، وأخرى لأنها امرأة كبيرة في السن وليس لها عائل ولا أهل ولا عشيرة. وكذا الحال ينطبق على أئمتنا (ع).
ثانياً: وهي قضية اجتماعية معاصرة لنا، وهي أنه لا ينبغي من الزوج أو الزوجة أن ينفصلان عن نصفهما الآخر لأي سبب عابر ودون روية وصبر ونصح وإرشاد. كأن يأتي الزوج مثلاً فيقول: كانت زوجتي في بادئ الأمر ملتزمة، وأصبحت الآن لا ترتدي الجورب عند الخروج من المنزل، لذلك أفكر في أن أطلقها. عجباً، أتطلق زوجتك، ولا سيما إن كانت لديكما ذرية وأسرة لأنها تركت لبس الجورب؟ نعم يجب على المرأة أن تستتر عن الأجانب، ومن جملة ذلك أن تغطي قدميها بالجورب أو الثوب الطويل أو بطريقة أخرى. ولو افترضنا أيها الرجل أن امرأتك تركت لبس الجروب، لكن أين الأمر بالمعروف والموعظة والإرشاد منك لها، والصبر عليها، ومحاولة هدايتها؟
فالقرآن الكريم يذكر لنا قصة النبي نوح عليه السلام الذي صبر على زوجته طيلة مدة الدعوة. فإن صح أن فترة دعوته كانت ٩٥٠ عاماً (... فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا...) (8). فهل كانت هذه المدة هي فترة الدعوة، أم الفترة العامة كاملة؟ ولكن على أي حال إن قدرنا أن فترة الدعوة كانت ١٠٠ سنة على أقل تقدير وذلك بحسب أعمارهم في تلك الأزمنة، وكانت زوجته على طريقتها من الانحراف وعدم الإقبال، وعندما جاء النبي نوح (ع) بالدعوة لم تبالي ولم تستجب له ولم تقبل منه. لكن نبي الله لم يتركها أو يطلقها، بل بقيت معه وحافظ عليها برغم أنها لم تكن مطيعة لله. ولذلك ورد في بعض الآثار أن نوحاً (ع) سئل أن يا نوح إن زوجتك منحرفة، لا تعبد ربك ولا تطيعك ولا تستجيب لك في أمور الدنيا، وأنت نبي الله، فلم لا تطلقها؟، كما يحصل في زماننا هذا حيث أصبح الطلاق سهلاً بل وبتشجيع من والدي الزوجين في بعض الأحيان ، فقال النبي نوح كلاماً بالغ الحكمة، قال إن الله لا بد أن يبتلي عبده ببلاء، فأن يكون ابتلائي بأحد هو تحت يدي، خير لي من أن يكون ابتلائي بأحد أنا تحت يده. فالدنيا دار كدر وابتلاء ولا يمكن أن تصفو لأحد، لكن الابتلاء بسلطان ظالم جبار كافر متسلط (مثلاً) يعذبك ويلحق بك الأذى، ولا طاقة لك به، هو أشد من الابتلاء بامرأة هي تحت يديك في كل الأحوال، بيدك أن تأمرها وتوجهها كما أن نفقتها بيدك.
لذلك عزيزي المؤمن، إن كان لدى زوجتك بعض المناكفة لك، فهذا أمر سهل، ولا تعتقد أنه إن حصل الطلاق بينكما فستنتهي المشكلة، بل قد يبدأ ابتلائك في مكان آخر فأنت عرضة للبلاء في هذه الدنيا، وقد تبتلى بمن تكون أنت تحت يديهم، بأشخاص يطالبوك بأموال عليك، بظالم يؤذيك، بجار يجعلك تكره حياتك بأذاه. ولا ينبغي بعد هذا أن يطلق شخص ما زوجته بحجة أنها ترفع صوتها عليه أو لا تزور أهله أو لا تطبخ إلخ. فزوجتي النبيين نوح ولوط (خانتا) زوجيهما في غير أمور العرض والشرف كما أسلفنا، لكنهما بقيتا معه.
وأنتِ كذلك أيتها المؤمنة، لا تفكري في الانفصال لمجرد علمك بأن زوجك يقوم ببعض الأمور الغير لائقة مثل مراسلة النساء، فتذهبين وتطلبين الخلع من المحكمة، فكلاكما قد أخطأ، هو أخطأ وأساء بالعبث بعلاقات غير مشروعة، وأنتِ أخطأتي بتفتيش هاتفه. فتصبري وعالجي الموضوع والموقف بهدوء وحكمة واصبري عليه،واصلي مشوار النصيحة وتمسكي بالحياة الزوجية. فإن وجد الله سبحانه وتعالى منكِ صدق النية والاستمرار في الإصلاح، فسوف ينزل بركته في بيتك ِ وتنتهي المشاكل بإذن الله. وكأن القرآن الكريم يدعو بشكل غير مباشر إلى إدارة المشاكل الزوجية بشيء من التؤده والحكمة والصبر والتحمل. ومن جهة يوجهنا القرآن الكريم إلى عدم استعجال الزوجين في الحكم على الآخر. فأنبياء الله نوح ولوط صبروا على انحراف زوجتيهما واستمروا في النصح والإرشاد. وأنتِ كذلك أيتها الزوجة..فزوجكِ لم يُعصم من الخطأ، قد يكون ظاهره الصلاح والإيمان، لكنه يبقى عرضة للتيارات والشهوات. ولهذا ينبغي على الإنسان أن يرتبط بالبيئات الصالحة، كالمساجد والمواكب والحسينيات والصحبة الصالحة وأهل الوعي والمعرفة والحكمة؛ حتى يبقى مستقيماً على الجادة.
ثالثاً: لا قرابة بين الله وبين أحد من الخلق، وإنما هناك قربٌ من الله، وهذا ما ينجي الإنسان. فلا يشفع للمرأة أن تكون زوجة نبي أو بنت وصي أو أخت ولي، كل ذلك لا يشفع لها ما لم تكن قريبة من الله تعالى (فلم يغنيا عنهما من الله شيئاً وقيل ادخلا النار مع الداخلين)، فما نفعوا أنفسهم بالقرب الإلهي. فالقرب والتقرب والعمل الصالح لله عزوجل هو ما يجعل من امرأة في أعلى الدرجات وأخرى في أدنى الدركات، وكذلك الأمر بالنسبة للرجل. إن قرابة النبي بذاتها للإنسان الكافر والجاحد والفاسق لا تصنع شيئاً. إن بعضاً من زوجات الأنبياء والأولياء قد ارتقين مراقٍ عالية جداً، وحزن على فضائل رفيعة، وبعضهن توسط، وبعضهن تأخرن. فنجد أن الإمام السجاد (ع) قد طلق زوجته الثقفية، وقد يقول قائل:لماذا لم يصبر الإمام عليها؟ قد يكون الجواب أنه لما رأى الإمام زوجته تبرأ من علي (ع) ،ولما كان قد أفهمها منزلته، وأصرت على بغضه، حيث أنه عند علمائنا أن من يشتم الإمام (ع) ويبرأ منه مع معرفته بمنزلته فإنه لا يعد من المسلمين، وبالتالي لا يحل للإمام أن يبقى على زوجيته معها، فهي ليست في حكم مسلمة يحرص الإمام على إبقائها . فلو أن امرأة كانت تشتم رسول الله (ص) والعياذ بالله، وتم نصحها وتوجيهها وتعليمه وتبيين الحقائق لها، لكنها أصرت على ذلك، فلا تعد هذه المرأة من المسلمين. وما لم تبلغ المرأة هذا المبلغ فقد يكون الإمام مخيراً في إبقائها، كما حصل مع الإمام الجواد (ع) مع زوجته أم الفضل، حيث أن الإمام لم يطلقها مع أنها من الناحية السلوكية كانت تؤذي الإمام، وتؤذي زوجته الأخرى أم الإمام الهادي (ع) ،إلا أنها ما بلغت درجة البراءة من الأئمة، فقد تصل امرأة إلى هذا النحو بحكم بيئتها المنحرفة، ولكن قد تصل أخرى إلى هذا النحو أيضاً على رغم معيشتها في البيئة الحسنة، وهنا تكون الحجة إضافية عليها.
ونحن حتماً علينا حجة إضافية؛ فالذين يذهبون من الإخوة إلى الغرب وينظرون أحوال المُبتَعثين والجاليات يجدون كم هو مقدار التحدي الديني والأخلاقي الذي يواجهه هؤلاء من الإغراءات، والأسئلة التشكيكية، ومشاكل في التواصل في الأمور الدينية، وعدم توفر أجواء دينية إيمانيةوغير ذلك. وقد تتمنى أن تستمع إلى صوت الأذان أو القرآن الكريم ولا تجد ذلك. نحن بحمد الله تعالى في بيئاتنا نعيش تلك الأجواء الدينية وهي بلا شك تدعم إيماننا وتساعدنا على التمسك والالتزام بتعاليم ديننا، فلنحمده سبحانه على هذه النعمة العظيمة.
من تعش تحت ظل نبي أو وصي فإنها تعيش في أفضل بيئة نظيفة وطاهرة في هذه الدنيا. فإن انحرفت، وأعطت ظهرها للرسالة فإن الحجة عليها أقوى من غيرها، وكان لزاماً عليها أن تنتفع بكل لحظة من لحظات وجودها مع النبي أو الإمام؛ حتى ترتقي بدينها وأخلاقها، وقد نجحن قسم منهن في الصعود إلى أعلى الدرجات، ونخص بالذكر هنا أم البنين فاطمة بنت حزام الكلاب (ع) أم العباس، فإنها رغم وجودها مع عدد من نساء أمير المؤمنين وكانت لكل واحدة منهن درجة عالية، كأسماء بنت عميس التي كانت على درجة عالية من الفضل والمعرفة،وزينب أخت السيدة فاطمة الزهراء (ع) على المشهور، والتي تزوجها أمير المؤمنين (ع) بوصية سيدتنا فاطمة أيضاً، وكانت ذات مستوىً عالٍ ومعرفة. إلا أنه في الذاكرة الشعبية حظيت أم البنين بموقع أكثر حضوراً واحتراماً من سائر نساء أمير المؤمنين (ع)، وقد يرجع ذلك إلى جهة أبنائها الكرام، لا سيما منزلة أبي الفضل العباس (ع)، فإن هذه الأم لهذا البطل الشهيد الذي بلغ المنزلة العالية، كما تخبر عنه زياراته المروية عن المعصومين (ع) ،التي فاق بها ليس إخوته فحسب، وإنما الأكثر من شهداء كربلاء وتجاوزهم. وهذا بالتالي يحسب في رصيد أم البنين سلام الله عليها وعلى أبنائها من جهة، ومن جهة أخرى موقفها تجاه ذكرها للإمام الحسين (ع) واهتمامها بالاستعلام والاستخبار عن أمره وشأنه، مقدمة ذلك استعلامها عن أبنائها وفلذات كبدها في أمر لم تجر عليه الطبيعة العادية للنساء،فالأم لا ترى أحدا يقدم على ولدها، فطبيعتها الأمومية الاعتيادية يجعلها ترى أبنائها قبل أي أحد مهما اختلف الزمان أو المكان.إلا أن أم البنين (ع) بينت خلاف ذلك فكانت لا تسأل إلا عن الحسين (ع) والإمام بحسب المعايير العادية ابن الزوجة الأخرى، وهذا يبين أن السيدة الجليلة عبرت مراحل كثيرة من تهذيب النفس وإنكار العواطف المجردة إلى الإيمان بالإمامة وشروطها.صلوات الله عليها.
__________________________________________
1)سورة التحريم 10_12.
2)سورة التحريم 10.
3)سورة النازعات 24.
4)سورة الأعراف 18.
5)سورة ص 78.
6)سورة مريم 28.
7)بحار الأنوار.
8)سورة العنكبوت 14.